فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والجواب عما قالوه ثالثًا: من أن قوله: {كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} يدل على أنه تعالى إنما يلقي ذلك الضيق والحرج في صدورهم جزاء على كفرهم.
فنقول: لا نسلم أن المراد ذلك، بل المراد كذلك يجعل الله الرجس على قلوب الذين قضى عليهم بأنهم لا يؤمنون، وإذا حملنا هذه الآية على هذا الوجه، سقط ما ذكروه.
والجواب عما قالوه رابعًا: من أن ظاهر الآية يقتضي أن يكون ضيق الصدر وحرجه شيئًا متقدمًا على الضلال وموجبًا له.
فنقول: الأمر كذلك، لأنه تعالى إذا خلق في قلبه اعتقادًا بأن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم يوجب الذم في الدنيا والعقوبة في الآخرة، فهذا الاعتقاد يوجب إعراض النفس ونفور القلب عن قبول ذلك الإيمان ويحصل في ذلك القلب نفرة ونبوة عن قبول ذلك الإيمان وهذه الحالة شبيهة بالضيق الشديد، لأن الطريق إذا كان ضيقًا لم يقدر الداخل على أن يدخل فيه، فكذلك القلب إذا حصل فيه هذا الاعتقاد امتنع دخول الإيمان فيه، فلأجل حصول هذه المشابهة من هذا الوجه، أطلق لفظ الضيق والحرج عليه، فقد سقط هذا الكلام.
وأما الوجه الأول: من التأويلات الثلاثة التي ذكروها.
فالجواب عنه: أن حاصل ذلك الكلام يرجع إلى تفصيل الضيق والحرج باستيلاء الغم والحزن على قلب الكافر، وهذا بعيد، لأنه تعالى ميز الكافر عن المؤمن بهذا الضيق والحرج، فلو كان المراد منه حصول الغم والحزن في قلب الكافر، لوجب أن يكون ما يحصل في قلب الكافر من الغموم والهموم والأحزان أزيد مما يحصل في قلب المؤمن زيادة يعرفها كل أحد، ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك، بل الأمر في حزن الكافر والمؤمن على السوية، بل الحزن والبلاء في حق المؤمن أكثر.
قال تعالى: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مّن فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] وقال عليه السلام: «خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل».
وأما الوجه الثاني: من التأويلات الثلاثة فهو أيضًا مدفوع، لأنه يرجع حاصله إلى إيضاح الواضحات لأن كل أحد يعلم بالضرورة أن كل من هداه الله تعالى إلى الجنة بسبب الإيمان فإنه يفرح بسبب تلك الهداية وينشرح صدره للإيمان مزيد انشراح في ذلك الوقت.
وكذلك القول في قوله: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ} المراد من يضله عن طريق الجنة فإنه يضيق قلبه في ذلك الوقت فإن حصول هذا المعنى معلوم بالضرورة، فحمل الآية عليه إخراج لهذه الآية من الفائدة.
وأما الوجه الثالث: من الوجوه الثلاثة، فهو يقتضي تفكيك نظم الآية، وذلك لأن الآية تقتضي أن يحصل انشراح الصدر من قبل الله أولًا، ثم يترتب عليه حصول الهداية والإيمان، وأنتم عكستم القضية فقلتم العبد يجعل نفسه أولًا منشرح الصدر، ثم إن الله تعالى بعد ذلك يهديه بمعنى أنه يخصه بمزيد الألطاف الداعية له إلى الثبات على الإيمان، والدلائل اللفظية إنما يمكن التمسك بها إذا أبقينا ما فيها من التركيبات والترتيبات فأما إذا أبطلناها وأزلناها لم يمكن التمسك بشيء منها أصلًا، وفتح هذا الباب يوجب أن لا يمكن التمسك بشيء من الآيات، وإنه طعن في القرآن وإخراج له عن كونه حجة، فهذا هو الكلام الفصل في هذه السؤالات، ثم إنا نختم الكلام في هذه المسألة بهذه الخاتمة القاهرة، وهي أنا بينا أن فعل الإيمان يتوقف على أن يحصل في القلب داعية جازمة إلى فعل الإيمان وفاعل تلك الداعية هو الله تعالى، وكذلك القول في جانب الكفر ولفظ الآية منطبق على هذا المعنى، لأن تقدير الآية فمن يرد الله أن يهديه قوى في قلبه ما يدعوه إلى الإيمان ومن يرد أن يضله ألقى في قلبه ما يصرفه عن الإيمان ويدعوه إلى الكفر، وقد ثبت بالبرهان العقلي أن الأمر يجب أن يكون كذلك، وعلى هذا التقدير: فجميع ما ذكرتموه من السؤالات ساقط، والله تعالى أعلم بالصواب. اهـ.
قال الفخر:
أما شرح الصدر ففي تفسيره وجهان:
الوجه الأول: قال الليث: يقال شرح الله صدره فانشرح أي وسع صدره لقبول ذلك الأمر فتوسع.
وأقول: إن الليث فسر شرح الصدر بتوسيع الصدر، ولا شك أنه ليس المراد منه أن يوسع صدره على سبيل الحقيقة، لأنه لا شبهة أن ذلك محال، بل لابد من تفسير توسيع الصدر فنقول: تحقيقه ما ذكرناه فيما تقدم ولا بأس بإعادته، فنقول إذا اعتقد الإنسان في عمل من الأعمال أن نفعه زائد وخيره راجح مال طبعه إليه، وقويت رغبته في حصوله وحصل في القلب استعداد شديد لتحصيله، فتسمى هذه الحالة بسعة النفس، وإذا اعتقد في عمل من الأعمال أن شره زائد وضرره راجح عظمت النفرة عنه وحصل في الطبع نفرة ونبوة عن قبوله، ومعلوم أن الطريق إذا كان ضيقًا لم يتمكن الداخل من الدخول فيه، وإذا كان واسعًا قدر الداخل على الدخول فيه فإذا حصل اعتقاد أن الأمر الفلاني زائد النفع والخير وحصل الميل إليه، فقد حصل ذلك الميل في ذلك القلب، فقيل: اتسع الصدر له وإذا حصل اعتقاد أنه زائد الضرر والمفسدة لم يحصل في القلب ميل إليه فقيل إنه ضيق فقد صار الصدر شبيهًا بالطريق الضيق الذي لا يمكن الدخول فيه، فهذا تحقيق الكلام في سعة الصدر وضيقه.
والوجه الثاني: في تفسير الشرح يقال: شرح فلان أمره إذا أظهره وأوضحه وشرح المسألة إذا كانت مشكلة فبينها.
واعلم أن لفظ الشرح غير مختص بالجانب الحق، لأنه وارد في الإسلام في قوله: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام} [الزمر: 22] وفي الكفر في قوله: {ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106] قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل له: كيف يشرح الله صدره؟ فقال عليه السلام: «يقذف فيه نورًا حتى ينفسح وينشرح» فقيل له وهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ فقال عليه السلام: «الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت» وأقول هذا الحديث من أدل الدلائل على صحة ما ذكرناه في تفسير شرح الله الصدر، وتقريره أن الإنسان إذا تصور أن الاشتغال بعمل الآخرة زائد النفع والخير، وأن الاشتغال بعمل الدنيا زائد الضرر والشر، فإذا حصل الجزم بذلك إما بالبرهان أو بالتجربة أو التقليد لابد وأن يترتب على حصول هذا الاعتقاد حصول الرغبة في الآخرة، وهو المراد من الإنابة إلى دار الخلود والنفرة عن دار الدنيا، وهو المراد من التجافي عن دار الغرور، وأما الاستعداد للموت قبل نزول الموت فهو مشتمل على الأمرين، أعني النفرة عن الدنيا والرغبة في الآخرة.
إذا عرفت هذا فنقول: الداعي إلى الفعل لابد وأن يحصل قبل حصول الفعل، وشرح الصدر للإيمان عبارة عن حصول الداعي إلى الإيمان، فلهذا المعنى أشعر ظاهر هذه الآية بأن شرح الصدر متقدم على حصول الإسلام، وكذا القول في جانب الكفر. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} أي يوسعه له، ويوفّقه ويزيّن عنده ثوابه.
ويقال: شرح شقّ، وأصله التوسعةُ.
وشرح الله صدره وسّعه بالبيان لذلك.
وشرحت الأمر: بيّنته وأوضحته.
وكانت قريش تَشْرَح النساء شَرحًا، وهو مما تقدّم: من التوسعة والبَسْط، وهو وَطْءُ المرأة مستلقِيَةً على قفاها.
فالشّرح: الكشف؛ تقول: شرحت الغامض؛ ومنه تشريح اللحم.
قال الراجز:
كَمْ قَد أكلتُ كَبِدًا وإنْفَحَهْ ** ثم ادخرت إِلْيَةً مُشَرَّحَهْ

والقطعة منه شَريحة.
وكل سمين من اللحم ممتدّ فهو شريحة. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} أي الإيمان.
يقال: شرح الله صدره فانشرح أي وسعه لقبول الإيمان والخير فتوسع وذلك أن الإنسان إذا اعتقد في عمل من الأعمال أن نفعه زائد وخيره راجح وربحه ظاهر مال بطبعه إليه وقويت رغبته فيه فتسمى هذه الحالة سعة النفس وانشراح الصدر.
وقيل الشرح الفتح والبين ويقال شرح فلان أمره إذا: أوضحه وأظهره.
وشرح المسألة إذا كانت مشكلة فأوضحها وبينها فقد ثبت أن للشرح معنين:
أحدهما: الفتح ومنه يقال شرح الكافر بالكفر صدرًا أي فتحه لقبوله ومنه قوله تعالى: {ولكن من شرح بالكفر صدرًا} وقوله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام} يعني فتحه ووسعه لقبوله.
والثاني: أن الشرح نور يقذفه الله في قلب العبد فيعرف بذلك النور الحق، فيقبله وينشرح صدره له ومعنى الآية: {فمن يرد الله أن يهديه للإيمان بالله} وبرسوله وبما جاء به من عنده يوفقه له ويشرح صدره، لقبوله ويهونه عليه ويسهله له بفضله وكرمه ولطفه به وإحسانه إليه فعند ذلك يستنير الإسلام في قلبه فيضيء به ويتسع له صدره ولما نزلت هذه الآية سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر فقال: «نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح» قيل فهل لذلك أمارة قال: «نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت» وأسنده الطبري عن ابن مسعود قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت عليه هذه الآية: {فمن يريد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} قال: «إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح» قالوا فهل لذلك من آية يعرف بها؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقاء الموت». اهـ.

.قال الألوسي:

{فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ} أي يعرفه طريق الحق ويوفقه للإيمان، وقالت المعتزلة؛ المراد يهديه إلى الثواب أو إلى الجنة أو يثيبه على الهدى أو يزيده ذلك {يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام} فيتسع له وينفسح وهو مجاز أو كناية عن جعل النفس مهيأة لحلول الحق فيها مصفاة عما يمنعه وينافيه كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم حين قال له: كيف الشرح يا رسول الله؟ فقال: نور يقذف في الصدر فينشرح له وينفسح فقيل: هل لذلك من آية يعرف بها يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقاء الموت. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}
الفاء مُرتِّبة الجملةَ الّتي بعدها على مضمون ما قبلها من قوله: {أو من كان ميّتًا فأحييناه} [الأنعام: 122] وما ترتَّب عليه من التّفاريع والاعتراض.
وهذا التّفريع إبطال لتعلّلاتهم بعلّة {حتى نوتى مثل ما أوتي رسل الله} [الأنعام: 124]، وأنّ الله منعهم ما علّقوا إيمانَهم على حصوله، فتفرّع على ذلك بيان السّبب المؤثّر بالحقيقة إيمانَ المؤمن وكُفْرَ الكافر، وهو: هداية الله المؤمنَ، وإضلالُه الكافرَ، فذلك حقيقة التّأثير، دون الأسباب الظّاهرة، فيعرف من ذلك أنّ أكابر المجرمين لو أوتوا ما سألوا لما آمنوا، حتّى يريد الله هدايتهم إلى الإسلام، كما قال تعالى: {إنّ الذين حقّت عليهم كلمات ربّك لا يؤمنون ولو جاءتهم كلّ آية حتّى يَروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97] وكما قال: {ولو أنَّنا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشَرْنا عليهم كلّ شيء قِبَلًا ما كانوا ليؤمنوا إلاّ أن يشاء الله} [الأنعام: 111].
والهدى إنَّما يتعلّق بالأمور النّافعة: لأنّ حقيقته إصابة الطريق الموصّل للمكان المقصود، ومجازَه رشاد العقل، فلذلك لم يحتج إلى ذكر متعلِّقه هنا لظهور أنَّه الهدى للإسلام، مع قرينة قوله: {يشرح صدره للإسلام}، وأمّا قوله: {فاهْدُوهم إلى صراط الجحيم} [الصافات: 23] فهو تهكّم.
والضّلال إنَّما يكون في أحوال مضرّة لأنّ حقيقته خطأ الطّريق المطلوب، فلذلك كان مُشعرًا بالضرّ وإن لم يذكر متعلّقه، فهو هنا الاتّصاف بالكفر لأنّ فيه إضاعة خير الإسلام، فهو كالضّلال عن المطلوب، وإن كان الضّالّ غير طالب للإسلام، لكنّه بحيث لو استقبَلَ من أمره ما استدبَر لطلبه.
والشّرْح حقيقته شقّ اللّحم، والشّريحة القطعة من اللّحم تشقّ حتّى ترقّق ليقع شَيُّها.
واستعمل الشّرح في كلامهم مجازًا في البيان والكشف، واستعمل أيضًا مجازًا في انجلاء الأمر، ويقين النّفس به، وسكون البال للأمر، بحيث لا يتردّد فيه ولا يغتمّ منه، وهو أظهر التّفسيرين في قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1].
والصّدر مراد به الباطن، مجازًا في الفهم والعقل بعلاقة الحلول، فمعنى {يشرح صدره} يجعل لنفسه وعقله استعدادًا وقبولًا لتحصيل الإسلام، ويُوطّنه لذلك حتّى يسكن إليه ويرضى به، فلذلك يشبَّه بالشّرح، والحاصل للنّفس يسمّى انشراحًا، يقال: لم تنشرح نفسي لكذا، وانشرحتْ لكذا.
وإذا حلّ نور التّوفيق في القلب كان القلب كالمتّسع، لأنّ الأنوار توسّع مناظر الأشياء.
روى الطّبري وغيره، عن ابن مسعود: «أنّ ناسًا قالوا: يا رسول الله كيف يشرحُ الله صدره للإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل فيه النّور فينفسح قالوا وهل لذلك من علامة يعرف بها قال الإنابة إلى دار الخلود، والتنحّي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الفوت». اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقًا حَرَجًا} ففيه مباحث:
البحث الأول: قرأ ابن كثير {ضَيّقًا} ساكنة الياء وكذا في كل القرآن، والباقون مشددة الياء مكسورة، فيحتمل أن يكون المشدد والمخفف بمعنى واحد، كسيد وسيد، وهين وهين ولين ولين، وميت وميت، وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم {حَرَجًا} بكسر الراء، والباقون بفتحها قال الفراء: وهو في كسره ونصبه بمنزلة الوجل والوجل، والقرد والقرد، والدنف والدنف.
قال الزجاج: الحرج في اللغة أضيق الضيق ومعناه: أنه ضيق جدًا، فمن قال: إنه رجل حرج الصدر بفتح الراء فمعناه: ذو حرج في صدره، ومن قال: حرج جعله فاعلًا، وكذلك رجل دنف ذو دنف، ودنف نعت.